الخميس, 18 أبريل, 2024
الرئيسية / حوارات وتصريحات / الحديثي: قصيدة الحمراء لنزار قباني من النصوص التي توهم القارئ

الحديثي: قصيدة الحمراء لنزار قباني من النصوص التي توهم القارئ

هل من الممكن أن يتوهم القارئ بالنصوص الأدبية والشعرية؟

أتساءل كيف لشاعر أن يصور لنا هذه البشاعة ثم يوهمنا بالجمال فنعجب به على مدى عقود خمسة؟

خص الناقد العراقي حسان الحديثي وكالة أنباء الشعر بحديثه لهذا الخميس والذي عنونه ب في مدخل الحمراء” ويتحدث فيه كيف يقلب الشاعر بعض الهنات الى جمال في أعيننا منطلقا من قصيدة شاعر الحب والجمال نزار قباني

حديث الخميس : في مدخل الحمراء

هل من الممكن أن يتوهم القارئ بالنصوص الأدبية والشعرية؟ وهل تغريه الأبعاد العاطفية في النص وتأخذه بعيداً عن الإبداع الأدبي فتحول النص بعينه من نص بسيط متواضع إلى نص جميل من خلال تأثيرات خارج حدود الشعر؟ فيحلو النص بعينه ثم يتأثر به قلبه ثم يردده كثيراً حتى يحفظه عن ظهر قلب؟

نعم هذا ما حصل مع قصائد أو مقاطع وأجزاء من قصائد كثيرة, ولعل قصيدة غرناطة أو “في مدخل الحمراء” كما يسميها البعض لشاعر الحب والجمال نزار قباني إحدى هذه القصائد والتي كتبها عام ١٩٦٣ أثناء زيارته لمدينة غرناطة الأندلسية التأريخ والإسبانية الحاضر.

قصيدة الحمراء هي من النصوص التي توهم القارئ وأنا أحد الذين توهموا في عمر الصبا أن هذا النصَ نصغ هائلٌ في معانيه ومبانيه، فحفظته وأترابي ثم تغنيت به وطالما قرأته أمام أصدقائي ممن يحبون الأدب، غير أنني حين توسعت مداركي واطلعت على الأدب العربي وفنونه وتبينت بعض مواقع الإبداع ومواطن الجمال في النصوص الشعرية وتبينت بعض خباياها وفنون صنعتها وحرفتها عدت لأجد أن بعضا من النصوص قرأناها وحفظناها وقد غابت عنا بعض هنّاتها وسقطاتها، وإني أقول ذلك غير متجاوز مواطن للجمال فيها والتي جعلتنا نفتن بها حيث كانت سترا بيننا وبين تلك الهنات.

فما الذي أوهمنا بهذه القصيدة وجعلنا نتأثر بها؟

هل يكمن السبب وراء ذلك إلى البعد التاريخي لقصر الحمراء وما يمثله من أثر عظيم -بشكل خاص- وما تمثله مملكة غرناطة -بشكل عام- ومأساة سقوطها وخسرانها هي وأخواتها من مدن الأندلس؟ والتي حاول من خلالها الشاعر محاكاة النفس العربية -عاطفياً- وهي تعاني من وطأة الانهزام والانكسار بتذكيرها بعظمة سلطانها مداوياً بذلك -ولو توهماً- بعض الجراح بإسلوب يتراوح بين الغزل المُلبس بالحُزن والبؤس والتي جعلهما الشاعر العلامة الأبرز في أبيات القصيدة؟

أم هي الديباجة التي أحاط بها الشاعر بعض ألفاظه متغزلا حيناً ومتأسفاً حيناً فقلب في أعيننا بعض الهنّات إلى جمال؟

من خلال النظرة إلى القصيدة من مستهلها وحتى ختامها نجد أن الشاعر بدأها بغزل ووصف بسيط فيه شيء من الواقعية والسردية المباشرة ثم بحوار بسيط هو الآخر بتراكيب جميلة ولغة متواضعة قريبة للنفس  بقوله :

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا … مـا أطـيـب اللقـيا بلا ميعاد

عينان سوداوان في حجَريهما … تـتـوالــد الأبـعاد مـن أبعـاد

هل أنت إسـبـانية ؟ سـاءلـتها … قالت: وفي غـرناطة ميلادي

ومفردة “ساءلتها” حشو زائد لا محل له من المعنى أساءت للبيت كثيرا لأنه ابتدأ مستفهماً بـ “هل”

من هنا يبدأ الشاعر بمحاكاة العاطفة الكامنة لدى العربي وإيقاظ حزنه على مُلك انحسر ثم ضاع من خلال اللمحات التأريخية والقرون السبعة ورايات بني أمية مؤسسي هذه الامبراطورية العظيمة التي دامت كأطول امبراطورية على سطح الأرض ثم محاكاة “دليلته السياحية” والتي رأى في عينيها الجمال العربي وفي وجهها وخدها سماراً دمشقياً تذكر فيه أجفان “بلقيس” وجيد “سعاد”  ثم محاكاة العاطفة المتأججة في قلب العربي وحنينه للدماء الجارية في عروق هذه الحفيدة السمراء.

غرناطة؟ وصحت قرون سبعة … في تينـك العـيـنـيـن بعد رقاد

وأمـيـة رايــاتـها مـرفــوعـــــة … وجـيــادها مـوصـولـة بـجـيـاد

ما أغرب التاريخ كيف أعادني … لحفيـدة سـمراء من أحفادي

وجـه دمشــقـي رأيـت خــلالـه … أجفان بلقيس وجيـد سـعـاد

يربط الشاعر هنا بين ملك بني أمية في دمشق ثم انتقاله إلى الاندلس على يد عبدالرحمن الداخل صقر قريش بعد انتهائه وتحول الأمر والملك إلى بغداد لبني العباس ، وهكذ يستمر وقع الأبيات واحداً تلو الآخر بمزيج جميل من الغزل والوصف للوجه العربي المتمثل في هذه العربية الحسناء الضائعة في بلاد الغرب والتي رأى في وجهها مسحة حنان ذكرته بحجرته القديمة ووجه أمه وبمدينته دمشق التي رآها في شَعْرِها الأسود وفي الثغر العربي المختزن لشموس بلاده وحدائقه وأزهاره

ورأيـت مـنـزلـنـا الـقـديـم وحـجـرة … كـانـت بها أمي تـمـد وسـادي

واليـاسـمـيــنـة رصعـت بنجومـهـا … والـبـركـة الـذهـبـيــة الإنـشــاد

ودمشـق أيـن تكون؟ قلت تـريـنـها … في شعـرك المنساب نهر سواد

في وجهك العربي في الثغر الذي … ما زال مختـزناً شمـوس بلادي

في طيب جنات العريف ومـائهـا … في الفل في الريحان في الكباد

و “البركة الذهبية” بركة في قصر الحمراء و “جنّة الْعَرِيف” قصر وحديقة على مقربة من قصر الحمراء اتخذه ملوك غرناطة وامراؤها لأيام عطلهم وراحتهم والشاعر هنا يربط بين ذاكرته الدمشقية وما حوله من مشاهد بأسلوب جميل شارحاً ذلك لدليلته الجميلة، ولكنه لا يكاد أن ينتهي من هذا الوصف الساحر الذي ملأه فتنةً ودهشةً حتى يعود ليفاجئنا بوصف شعر فاتنته الجميلة مرة أخرى ولكن هذه المرة يقول عنه “كسنابل تركت بغير حصاد” وهذه كناية عن لون الشعر الذهبي الذي كان قد وصفه للتو بأنه “نهر سواد” فأوقع نفسه بين تشبيهين متناقضين مما أفسد على القارئ جمال وعذوبة ما قاله آنفاً.

سارت معي والشعر يلهث خلفها … كسنابـل تركـت بغيـر حصاد

ولا أظن أن هناك سنابلا بلون أسود إلا إذا كانت محترقة لا نفع فيها كما لا تصلح للوصف والتشبيه، ثم يقع في هنة أخرى حين يشبه المفرد بالجمع “القرط” بـ “الشموع” مما أوهن البيت وأضعف وقعه وتأثيره في النفس من جانب ثم جعل الصورة مرتبكة مضطربة في الذهن من جانب آخر.

يـتـألـق الـقـرط الـطـويل بجـيدها … مـثـل الـشـموع بليلـة الميـلاد

لكن قباني كان موفقاً جداً في وصف نفسه كالطفل خلف دليلته وكان موفقاً أكثر بوصف التاريخ على أنه كومة رماد فهو كذلك في بال وذاكرة العربي بعد أن استحال هذا التاريخ المدوي وهذه الحضارة الرائعة وهذا الملك العظيم لغير الأكف التي بنته وأنشأته، ومما يزيد من وطأة الحسرة في النفس أن الدول العظيمة على هذه الأرض تعاقبَها الأبناءُ ثم الأحفاد حتى يوم الدنيا هذا إلا الاندلس فقد ذهبت سداً أدراج رياح التاريخ ، فهذه اسطنبول وتلك مدن ومواريث أوروبا كانت ولا زالت بيد أهلهِا وبُناتِها.

لكن دليلته الجميلة أصابته بمقتل حين قالت: “هنا الحمراء زهو جدودنا” فكان جرحاً عظيما لا يستطيع وصفه إلا من زار الأندلس وتمعن في آثارها وما تركه العرب من حضارة عظيمه لم يمحها كر الجديدين وتعاقب الشمس والقمر، إلى جانب الكم الهائل من المؤلفات والكتب والتراجم في كل العلوم والفنون والآداب ، إنه إرث يستحق أن ينظر إليه العربي بطرف باك وقلب متصدع ولا شك.

ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي … وورائي الـــتـاريــخ كــوم رمـــاد

الزخـرفات.. أكاد أسمع نبـضها … والزركشات على السـقوف تنادي

قالت: هنا “الحمراء” زهو جدودنا … فـاقـرأ على جـدرانـهـا أمجـادي

أمـجـادها؟ ومسحت جرحاً نـازفاً … ومـسـحت جـرحاً ثانيـاً بفـؤادي

يـا ليت وارثـتـي الجمــيلة أدركـت … أن الــذيـن عــنـتـهم أجــــدادي

حتى ينتهي ببيت غريب جداً وهو قوله:

عانقت فيهـا عندما ودعتها … رجلاً يسمى طارق بن زياد

فبالرغم من جمال هذا البيت وما يبعثه في النفس -توهماً- من معان وأحاسيس وجدانية حاول الشاعر أن يكني بها عن إنتماء الحضارات رابطاً الحاضر -بشخص دليلته الجميلة- بالماضي بشخصية القائد طارق بن زياد الشخصية التأريخية التي كان لها الأثر الاعظم -عسكريا- في التهيئة لتأسيس الدولة الأموية في بلاد الاندلس.

إلا أنني لا أستطيع أن أتقبل قوله : “عانقت فيها عندما ودعتها “رجلاً ” بصرف النظر عن شخصية هذا الرجل، فالشاعر بعد أن انتهى بأبيات جميلة بالغزل والوصف يعود ليقلب الصورة الشعرية المجازية إلى صورة حسية صريحة بقوله “عانقت فيها رجلا”

وإني أتساءل كيف لشاعر أن يصور لنا هذه البشاعة ثم يوهمنا بالجمال فنعجب به على مدى عقود خمسة .

انا اجزم لو أن نزار قباني نظر إلى نهاية هذا النص اليوم كقارئ وما يتركه من أثر “حسي” لأعاد النظر وتردد في كتابة هذا البيت على الاقل مرة واحدة.

ولو قُدّر له أن يُعانق القائد طارق بن زياد -واقعاً- متحسساً خشونة كفيه وصلابة ذراعيه وعرض منكبيه لتردد بكتابته ألف مرة.

شاهد أيضاً

الشاعر صالح الشادي : الفنان محمد عبده بخير وعافية

  طمأن الشاعر والكاتب صالح الشادي الجمهور على صحة الفنان محمد عبده بعد وعكة صحية …

2 تعليقان

  1. من الممكن عندما قال عانقت فيها عندما ودعتها رجلا يسمى طارق ابن زياد ممكن المقصود هنا قصر الحمراء او غرناطة

  2. إذا كان نزار قباني قد رأى بالمرشدة السياحية وجهاً دمشقياً وعينين سوداوين فلن يصف شعرها بالسنابل ليوضح اللون .. فالسنابل المحصودة أو المتروكة بغير حصاد تملك لوناً ذهبياً .. وإنما وصف نزار الشعر بالسنابل كناية عن الحركة الاهتزازية نتيجة للسير مثلها مثل تموجات وتمايل السنابل الطويلة غير المحصودة .. لا علاقة للون بهذا الوصف

اترك رداً على منطقي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *