السبت, 27 أبريل, 2024
الرئيسية / حوارات وتصريحات / العثمان وحداثة التشكل الشعري في مجموعة “أرى في الماء غير الماء” لمحمد عزام

العثمان وحداثة التشكل الشعري في مجموعة “أرى في الماء غير الماء” لمحمد عزام

الشاعر كان في هذه المجموعة حالماً متقداً، يرنو الى التجديد بطرق معرفية عفوية

تحت عنوان: حداثة التشكل الشعري في مجموعة (أرى في الماء غير الماء) للشاعر محمد عزام الصادرة عن أكاديمية الشعر التابعة للجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبو ظبي كتب الناقد محمد طه العثمان:

تُعتبَر أسس تشكل البناء الشعري من القضايا الخلافيّة في الاتجاهات النقدية الحديثة، حيث إننا نجد أن الدارسين والشعراء والنقاد يختلفون في تحديدها، فكل دارس أو جماعة لها وجهة نظر في الأسس الشعرية الجمالية التي ترتكز عليها النصوص حين تتضافر لتخلق حالة إبداعية مستمرة تتناسب مع المفاهيم المتجدد للحياة.

وإن البناء الحداثي في التشكل الشعري يتماشى مع الفكر المتغير، فرب نص قديم لشاعر جاهلي مازال حديثًا متجددًا يكتنز على عناصر الحياة، ورب نص معاصر هو نص غير حداثي يموت بعد لحظات من ولادته، فقط لأنه لا يملك مقومات الرؤيا والتجدد والحياة المتغيرة وولوج الذات الإنسانية بموضوعية، فأولى مميزات الشعر الحداثي هو استثمار خصائص اللغة بوصفها مادة بنائية وحية وغير جامدة، فالكلمات والعبارات في الشعر يقصد بها بعث صورة إيحائية قادرة على إعطاء تأويلات لا محدودة، ومن خلال هذه الصور يعيد الشاعر إلى الكلمات قوة معانيها التصويرية الفطرية في اللغة.

ونحن هنا نرمي من وراء هذه الدراسة الموسومة بـ “حداثة التشكل الشعري في مجموعة أرى في الماء غير الماء ” إلى تحقيق هدفين اثنين هما :

أولاً ـــ التأكد على أن الشكل الخارجي للنص ليس هو المقيّم لتحديد هوية الحداثة فيه، فمصدر قوة التشكل تكون من تفجير طاقة الكلمات من الداخل.

ــ البحث عن مصدر الحداثة في الصورة واللغة  لنعرف آليات حداثة التشكل الشعري عند الشاعر محمد عزام .

فكان لا بد أن نقسم البحث إلى عدة فصول تتحدث عن اللغة الشعرية وتشكلاتها، و الرؤيا والمضمون الحداثيين .

1 ــ شفافية التركيب اللغوي:

إن قوة شفافية التركيب تكمن في مهارة الشاعر حين لا يبذل مجهوداً في جلبه، فيكون في الوقت ذاته بعيداً قريباً، وكل ذلك يتجلى من خلال علاقات العدول، فاللغة والتركيب متمثلان بالمفردات، وعند ذاك تقترب الرؤية المعبّرة عن إحساس الشاعر من خلال هذا الاقتران الذي قال عنه العالم اللغوي (كارل فسلر) “ إن صورة الاقتران اللغوية ليست على الإطلاق حركات منطقية إنها حلم الشاعر، حيث تتصادم الأشياء، لا لأنها تختلف في ما بينها أو تتحد، بل لأنها تجتمع في الفكر والشعور في وحدة عاطفية[1]  ولذلك نرى أن أي الانزياح عن القاعدة هو انزياح عن درجة الصفر إذا انزحنا درجة أو درجتين فهو انزياحٌ خفيف؛ وإذا انزحنا درجات كثيرة فهو انزياح شديد، فمثلا يقول الشاعر في قصيدة ( آخر ما قلتُه للذئب) :

هنا ياسمينٌ .. كان ينمو لأجلها

وغابة شِعر

من صلاة

البلابلِ…

هنا

ألفُ عام من حنين لعطرها

وغيمة وجد من حرير الرسائلِ…

فنجد هذه الصورة تتنامى في حضور وجداني شفيف، حين وظف الشاعر الصورة الفنية (نمو الياسمين، ونمو غابة الشِّعر من صلاة البلابل) في تشكيل تركيبي كله مرتبط بها وهي مركزه ومحوره، فما تحمله هذه الصورة من أبعاد وجدانية وحسية، بألوانها وأطيافها الدلالية وحركيتها، يؤكد على مركزية هذه الأثنى، فشكلت انزياحاته في هذين البيتين درجات من الشفافية التركيبة متموجة الشكل، فقامت الصورة الشفيفة فيه عبر انزياح للدلالة وإضافة هذا المعنى، لتصعيد هذه المركزية وتعزيز خصوصية هذه الأنثى وتفردها. ونراه يقول في موضع آخر:

‏لماذا اخترعنا للخلاص صليبهُ
وصرنا نرى في بسمة الدرب جلجلهْ؟!

فكيف يُطلّ العشب من سقف بيتنا
وكل براري الروح صحراء مهملهْ؟!

وقد كنتُ وحدي حينها إذْ رأيتُني 
أُجرّدُ من نفسي عدوًّا لأقتلَهْ

سأحمِلني ميْتاً .. و أمشي بلا هدى
لعل غرابًا ما يحطُّ .. لأسألهْ !

هنا يحقّقَ معادلة التوازن بين العدول الفني وبين التعبير عنه بالطريقة المثلى في التكوين البنائي؛ وقد تحقق ذلك في البيت الأول من خلال الاستفهام الاستنكاري (فكيف يطل العشب ..؟) ومن خلال التنويع بين السردية وبين التوصيف في البيت الثاني، ومن ثم بين الذاتي الذي يُخفي وراءه الموضوعي وبين الموضوعي الذي يحيل على الذاتي في البيت الثالث، فاستطاع الشاعر أن يُشبعَ نصه بهذه التلميحات وينطلق بنصه نحو الفضاء الرؤيوي الشفيف، وإغناء حركة النص من خلال هذا التنوع .

2 ــ التناغم الصوتي في تكوين التركيب اللغوي

من خلال آليات عديدة كـ (التقريب)، والمخارج الصوتية التي تنتج جملاً فيها كثير من التناغم والانسجام التركيبي والصوتي. فتكون بناءً شعرياً متماسكاً يكسب السامع للنص نغمة خاصة تستقر في الذهن والعاطفة طويلاً، فكانت هذه الظاهرة من أهم الظواهر التشكيلية في البناء الشعري في هذه المجموعة، فنراه يقول مثلاً:

قمر .. يرقص في شوارع حزنه

مثل الشموع تراقصت مع ظله.

نلاحظ التناغم الحاصل بين (قمر، يرقص، تراقصت) وبين (شوارع وشموع) وبين (حزنه وظله) جعل التدفق البنائي في هذه البنيات أكثر حرارة وتأصلاً في ذات القارئ وروحه.

وفي قوله مثلاً:

تلونا على الأشياء دمع صلاتِنا

وشيطانُ هذا الوقت يشحذ منجلَهْ

يتعالى الانسجام في التركيب الصوتي كثير من خلال: ( الأشياء، و شيطان ، يشحذ) فتتحد هذه العناصر في بينات متوترة لتخلق معها انسجام معنوي وفني عالي الجرس. أما في قوله مثلا :

فالخيلُ تعرفُهم

والماءُ يعرفهم

كأنهم في بحار الوقت قد غرقوا

نجد التقسيم المتوازي الذي أعطى بعداً تساوقياً مع انسجام وتناغم في البنيات الأولية في الشطر الأول ليكون هذا التقسيم مع التكرار هو الراسم لخصوبة التناغم.

3 ــ النسق بين اللغة المألوفة واللغة البعيدة :

نقف من خلال هذا التناظر على اللغة العادية التي يستطع القارئ من دون جهد أن يصل إلى الفكرة فيها، وأيضاً من خلال  اللغة البعيدة الانزياحية وهل استطاع أن يجسد معانيه البعيدة إزاءها .

ــ فاللغة العادية لها وظيفة توصيلة تفريغية، تشحن عواطف القارئ كقول الشاعر :

فالحرفُ قافلةٌ تسر بضاعة

بات الوجودُ جميعه في رحلِهِ

فالشطر الأول حرض القارئ بقوة، ليكون الشطر الثاني هو محطة التفريغ لمشاعره: (قافلة والبضاغة…. أدت بالضرورة إلى رحله) فجاء البيت الثاني تفريغياُ في رسالته التوصيلية والبنائية.

ــ أما اللغة البعيدة لها مقاصد يستجلبها الشاعر لإثارة الذهن والابتعاد عن التصريح المعلن، ومن ذلك كقول الشاعر :

غابٌ من النايات ينمو في دمي

ويئنُّ في الأضلاع حزنُ ذئابِها

أو قوله:

كيف انهمرتِ على أصابعِهم

لحناً طريّاً شبَّ من لغتي

وأنا ترابٌ في قوافلهم

رافقْتُهم

ونسيْتُ زوبعتي

وإن لكلا الصورتين معنى ووظيفة في النص الشعري، لكن ما يتضح هنا هو أن الشاعر عندما يلتقط العلاقة المجازية في اللغة البعيدة يكون التحول هو تكوين تصويري فاعل ومدخل وصفي يسهم كثيراً في بلورة الحالة الشعرية، وبذلك أخذ يتجاوز الالتفات البسيط والعابر للصورة القديمة، وبدأ يتمثلها ويعيد خلقها لتخدم موضوعه وموقفه المعاصر كما في قوله مثلا:

فروّضي صوت هذا الناي إنْ صهلتْ

فيه الخيولُ وصلّتْ في دمي العربِ.

فقد ظل الشاعر يخلخل بؤرة الصراع ويخلقُ فجواتٍ للتوتر فأحال تحولات الرؤيا في المجموعة على فاعلية الحلم والكشف من خلال الاعتماد على الاستكشاف الخلاق في بناء الفكرة (الثورة على الواقع والانتصار لعروبة الشاعر) والإبعاد عن المحسوس الملموس الذي يقلق من فاعلية التأثير في مخيلة القارئ كقوله:

تغريه

إن نفرتْ ظباء خيالِه

فيصيدهنّ بقوسه ونبلِه

وقوله  أيضاً:

أبصرتُ

هذا الكون يخلع ثوبه

ورأيتني شجراً

ينز دماءْ

ففي هذا المسلك الكشفي آثر الشاعر كما في المثالين السابقين أن يفعّل عنصر الرؤيا في من خلال الحديث عن الموت والحياة والخوف من المجهول في الشاهد الثاني، وعن التحدي والإصرار على تحقيق الطموح في الشاهد الأول. فكل ذلك تحقق ضمن آليات الحلم والتوجس نحو المجهول للكشف عنه بعلاقات لغوية متجددة.

وفي قوله:

ولا تفيّأتِ من عمري هواجسَهُ

ولا تركتِ فؤاداً ساجداً بيدي ..

ولا أراني على شيءٍ سوى قلقٍ

مازال يفرغُ ما في الكأس من جَلَدِ ..

نرى العزام هنا مسكونًا بهاجس تكثيف الرؤيا في خلق مساحة خاصة به، لأنه يدرك أنها نقيض الحلم الذي يرغب، أعني نقيض الذاكرة الصافية حيث لا سوابق أو ضوابط تقيدها به، فهي لم تغص في قلقه أو تكتنز هواجسه، وظلت تتمرد على حلمه ورؤاه، ومن هذا يخلق الشاعر العقوق الجميل والضروري في مساحات الكشف عنده في تكرار تركيب ( ولا .. ولا .. ولا) ثلاث مرات، فتصنع الأبيات ذكوريته المشبعة بالحنان والقسوة معاً. ومن هذا الجدل المدهش والمرير بين تعطشه إلى الانطلاق بها، وقيوده الباهظة بالتعلق بحبها تبزغ خصوصية هذا الحلم، ومن أجل هذا عُدّت الشعرية فاعلية نسقية ورؤيوية في آن؛ فلا قيمة للشعرية بمعزل عن جمالية الرؤيا؛ ولا شعرية للرؤيا بمعزل عن جمالية اللغة.

4: التوظيف الثقافي في المجموعة :

إن التّوظيف الثقافي في شعرنا هي ميزة استثمر فيها الشاعر عناصرَ من ثقافته في النص الشعري، وقد وجد شعراء الحداثة في والتّاريخ والدِّين والثّقافة الأدبية والموروث الشّعبيّ مادةً غنية, فوظفوها في قصائدهم, وعبَّروا بها عن تجاربهم المعاصرة, وكان لها أبعادها النفسية والجمالية تغني النص وتثري آفاقه وتشكيلاته الفنية.

 لقد بحث الشّعراء عمّا يعزِّزُ في الشعرية الجديدة وظيفتَها, فأصبحتِ المكوّنات الثّقافيّة من خلال التوظيف عناصرَ مهمّة في تركيب الصورة, منحتْها العمقَ والثّراء والدّلالة المركّبة المتعدِّدة, كما دخلت تلك المكوّنات إلى القصيدة الحديثة واعتمد عليها الشّعراء في بناء الصّور الكليّة التي يشكّلُ الرمز إطارها العام, في حين تشكل المواقف والأحداث عناصرَها الجزئيّة كاستدعاء القصص في القرآن الكريم ، أو توظيف مضمون بعض الآيات القرآنية، أو ما جاء من الحديث الشريف أو من القصص التوارتية أو الانجيلية، مما يخدم النص ويعطيه قداسةً أكثر، ويلفت انتباه القارئ له، كقوله :

اليومُ

قد كمُلتْ شهادتُهم

رُفع الرصاص

وجفّتِ الصحفُ

وهذا البيت يستدعي حديث النبي عليه الصلاة والسلام، في معرض حديثه حول أن الله وحده الذي يضر وينفع ولا أحد غيره، ويختم الحديث بقوله { اليوم رفعت الأقلام وجفت الصحف).

إن أسس العلاقة بين النص والقارئ في هذا السياق الاستدعائي قائمة على الاستيعاب والإدراك الواعي للمعنى الإنساني والتاريخي للتراث، وليست بحال من الأحوال علاقة تأثر صرف، ومن خلال هذه النظرة كان استرجاع الشاعر للمواقف التي لها صفة الديمومة في هذا التراث، وعلى القضايا الحية في ضمائر الأمة، التي لازالت تنبض بالحياة وتخفق بالعطاء، فأكمل هذه المشهدية باستدعاء الشخصيات التاريخية أو أسمائها، أو توظيف أفعالها وأقوالها، وتوظيف بعض الأحداث التاريخية لاستثمار هذا الحوادث ومقاطعتها مع الحاضر ضمن رؤياه ومعطياته الحديثة ، فمثلا يقول :

نعم خرقتُ بأوجاعي مراكبهم

حبا بهم

فورائي سيف مرتعدُ

يستدعي الشاعر هنا صورة طارق بن زياد من خلال عبارة ” خرقت مراكبهم … فورائي سيف مرتعد ” عندما أحرق السفن، وقال عبارته المشهورة ( العدو من أمامكم والبحر من وراءكم ) لتكون هذه الإشارة المبعث الرئيس لصرة الشاعر المتأزمة في الحب والامحاء أمامه فلا رجعة أو تباطؤ في ذلك، ممَّا ولّد انسجاماً كبيراً بين السياقين، فالشاعر استغل الموقف التراثي لطارق بن زياد من خلال قوله ذاك، بغية تثبيت موقف الشاعر في هذا الحب المقيم.

وأخيرا نرى أن الشاعر قد كان في هذه المجموعة حالماً متقداً، يرنو الى التجديد بطرق معرفية عفوية، ويصبو إلى وجود مستنير مفعم بحرية النفس والروح، فكانت المجموعة متدفقة أسلوباً وإيقاعاً، بعث فيها صوراً  إيحائية قادرة على إعطاء تأويلات لا محدودة ومكتنزة.

[1] الشعر العربي المعاصر/ قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية/ د. عز الدين إسماعيل. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1967م/ ص 134

شاهد أيضاً

الشاعرة نزهة غوطيس للوكالة : العيد هو يوم التسامح و السلام

  أوضحت الشاعرة نزهة غوطيس بأن العيد هو يوم التسامح و السلام ،تعم فيه الفرحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *